سماء هادئة ٢

دعونا نجرب حيلة سردية جديدة، وكالعادة، يجب أن نعترف أن الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال واهن، لا تراه حين تقطعه، فيختلط ما فرق بينهما، في مزيج واحد.
وفي الحقيقة، المهمة صعبة، لدرجة أن كاتب هذه السطور يُعاني، ولا يستطيع فك الخيوط المُتشابكة، والطلاسم الشاذة، والعبارات التي لا معنى لها، كما قد يظهر لعيون وعقول بعض الناس.
بدأ الأمر في الصيدلية، كالعادة، ولن أُحدثكم اليوم عن كائنات لا تعرفونها، بل عن أدوية الصيدلية، وما تُخفيه عن أعيننا من شرور.
لا أتحدث بالطبع عن كل الصيدليات، بل عن صيدليتي وحدها، مُخيف أن أتخيل انتشار الأمر ليسع صيدليات أهلية أخرى، فلا أظن أن لغيري القدرة على مواجهتهم.
لا تستطيع مواجهة عدو لا تفهمه، أليس كذلك؟ وإن كنت صيدلانيًا ماكرًا واسع الحيلة.
جاء المريض ليشتري مني علبة أوكساليبتال 300 مجم، وهي أقراص لعلاج الصرع والتشنجات، كان أخرُ شريطٍ في العلبة، ولم تكن على الرف لأن تاريخ انتهاء صلاحية استخدامها اقترب جدا، أعطيته العلبة وتفرست في وجهه لأتأكد أنه يزور الصيدلية لأول مرة، أو إن كُنت قد رأيت وجهه من قبل.
لا أتذكر الحقيقة.
موقف عادي، يتكرر كل يوم عشرات المرات.
ما حدث في اليوم التالي غير اعتيادي بالمرة، عاد الرجل إلى الصيدلية، بوجه ينتابه إحمرار وإصفرار، ويد ترتعش بقوة، لم يأخذ العلاج على ما يبدو، ربما لاحظ اقتراب صلاحيته من الانتهاء! أو ربما تناوله فأصابه أذى بأثارٍ جانبية ما.
قال:
– ما هذا الذي دسسته لي في عُلبة علاجي؟
– ماذا؟ لم أدُس شيئًا!
– بل فعلت، لقد رأيتك بنفسي، أخرجت الشريط من العُلبة ومعها ورقة الإرشادات الطبية، ثم دسست ورقتك المقيتة هذه مع شريطي، تُريد أن تُسمم عقلي وجسدي، عليك لعنة الله.
وألقى بالعلبة في وجهي.
سُبحان من حكم بتحكمي في أعصابي، ولا أنفجر في وجهه.
أتذكر مرة حينما ارتفعت أسعار الدواء بالجملة لأول مرة، أتى مريضٌ وتصرف بشكل مشابه، أيام غلاء أسعار الأدوية الجماعية منتصف ٢٠١٧، لكن تصرفي معه مغاير تمامًا لثباتي الانفعالي اليوم.
أراد شراء علبة كونكور تركيز ٥ مليجرامات، وقد ارتفع سعرها ستة جنيهات، ليُصبح سعرها سبعة وعشرون جنيهًا بدل واحد وعشرين جنيهًا، وقد أمرت الجهات الطبية المعنية وقتها بتغيير أسعار علب الدواء يدويًا، يعني يشطب الصيدلاني السعر المطبوع على العُلب بنفسه ويكتُب السعر الجديد، حسب قواعد صارمة بالطبع، لا مجال لذكرها بالطبع، وإلا كُتبت الأسعار حسب ما يشتهيه المرء.
– كم سعر العلبة؟
– ٢٧ جنيهًا بعد الزيادة الجديدة.
– ستة جنيهات بأكملهم! هذا كثير.
لم أناقشه، وضع العلبة على زجاج (الريون) وهو ما كنت سأطلُبه منه؛ دعها وأسأل في صيدلية أخرى، لا داعي لنقاش ولا إزعاج، أخرج هاتفه والتقط صورًا للعلبة، ثم رفعه ليصورني!
– ماذا تفعل؟
– سأصورك لأشتكيك.
– تُريد أن تُشهر بي؟! وتلتقط صورًا لي دون إذني؟ أنا أُطبق أوامر حكومية، تُذاع ليل نهار في التلفاز! أسأل عن سعر العلبة في أي صيدلية مُجاورة.
– بل أنت نصاب.
ولا يخفى عليكم أننا تشاجرنا، ولمدة طويلة، سحبت منه الهاتف وعلبة الدواء، وتبادلنا التلاسن، هو رجل عجوز لكنه سبني، فليتحمل إذن.
لكن مع مريضنا الحالي، تمكن مني هدوء ظاهري، رغم العواصف النفسية الهائجة داخل صدري، أمسكت الورقة، شكلها يختلف عما اعتدت عليه، الكلمات كبيرة، مكتوبة بخط يد، لا خطوط الحاسوب المُنمقة، تأملت عينيه الظافرتين، قبل أن أقرأ ببطء:
“البرق يزعق بالخارج، داهمني عرق بارد، وضيق تنفس، وكأنه شهيق أخير، تشبثت بسريري، جسدي يرتعش، أحتاج لتناول علاجي، أحتاج لاستعادة المنطق وإدخاله في رأسي، لكن الظلام مُسيطر على كل شيء، على الغرفة وعلى العالم من حولها، كما هو الظلم، والمرض.
ربما هو كابوس، يجذبني إليه، ربما هو أسوأ كوابيسي، فأعيش فيه أبد الدهر، ولا أتذكر تفاصيله أصلًا، أعيش فيه كل مرة، وكأنها أول مرة.
أتذكر فقط أنه مُخيف، مُخيف ولا ينتهي.
أتذكر أنه عنيف، ولا يعرف الشفقة، دقيقة حقيقية من ذاكرة ميتة، كاقتباس خاطف من كتاب صرخات.
لا أتذكر ما يُخفيه الحلم، لكني أعرف أن ما هُنالك.. يتذكرني!
ولن ينساني!
أعرف أن حياتي السابقة لن تعود، لن أنام في الليل مُجددًا، ولا أي ليلة قادمة.
لأنه هُناك.. ينتظرني.
ولن يتوقف عن إخافتي، وإصابتي بالأرق، حتى يسترجع ما يمتلكه.
روحي!
ما يحتاجه هو.. أن أرقد على السرير، وأُغلق عينيّ، واستسلم للتشنجات، وهي تغزو عضلات جسمي، وتضرب مُخي.
يستطيع الانتظار للأبد، الأبدية جند من جنوده.
لا خيار لدي، سوى الاستسلام، يعرف الكابوس مكاني، وسيتمكن مني، ولن يدعني أهرب.
لن أتكلم، سأُغلق عينيّ، سيختبئ القمر خلف سُحب منتصف الليل، ولا يعدو لنوره غير ذي الفائدة وجودًا، سأشعر بالظلال تنتاب عضلاتي، تُراقصها بصورة أبدية، تجتاح وجنتيّ، إنه يُريدني، يحتضنني، ويمنع عني العلاج لأنه سيُبعده.
فمن يسقيني شربة ماء، وقرص الأوكساليبتال؟
قبل أن يُعانقني الظل، فالخوف، فالكابوس!
– ماكس بووث الثالث.

……

يُتبع..

أضف تعليق