قد رأيناه 1

في تمام السابعة مساءًا أوقفت مُشاهدة الفيلم وقًُمت مُتثاقلًا لأُضيء أنوار الصيدلية، الهدوء يعم الحي، بعدما أُغلقت المحال ولاذ معظم الأهالي ببيوتهم.
ومن بعيد، ليس بعيد جدًا، ولم يمنعني الظلام من رؤية سيدة تُشبه بطلة الفيلم الذي أُشاهده، تتقدم نحوي.
بنفس الملابس، والشعر الأشقر، والحالة التي تتحسر عليها.
في فيلم triangle، جيس أم لطفل ضعيف العقل، تُعامله بعنف وتضربه لأتفه الأسباب، هذا ما نعرفه في النهاية، البداية على سطح قارب مع مجموعة من أصدقائها، ينقلب بهم القارب، وبعد محاولات عدة يقفون على بطنه المقلوب، فتمر من أمامهم سفينة ضخمة، هناك من يُراقبهم بالطابق الأعلى، يطلبون منه المُساعدة فيبتعد، ثم يستقلون السفينة رغبة في النجاة، ومع مرور الوقت يهجم عليهم رجل مُقنع، يُطلق عليهم النيران ويقتل كل أصدقائها، ثم تواجهه، وتتغلب عليه وترميه من فوق السطح إلى غياهب المُحيط، بعدما يخبرها بصوت ضعيف أن السبيل الوحيد للعودة إلى ابنها هي بقتلهم جميعًا!
بعدها بلحظات، تنظر من أعلى لترى قاربًا مقلوبًا، تقف هي عليه مع أصدقائها، يريدون دخولها رغبة في النجاة، يطلبون منها المُساعدة فتبتعد!
وطوال أحداث الفيلم، نكتشف أن لجيس نسخ مُختلفة، تُشبهنها تمامًا، كلهن أتين بنفس الطريقة، ثم نكتشف أن المُلثم الذي هاجمهم في البدء هو نفسه السيدة الغريبة، جيس.
عند تلك اللحظة بالضبط أوقفت الفيلم، لا أدري ما حدث بعد ذلك، سوى أني أرى بطلة الفيلم ذاتها تقف أمامي، جيس أو باسمها الحقيقي ميليسا جورج، تتجمد الدماء على شعرها الأشقر، ملابسها تُظهر كل شيء، ميني جيب في حي ريفي بمصر؟ كيف لم يلتهمها أحدهم؟
قالت بالإنجليزية:
– أنت د. أحمد عبد السلام العربي؟
– ..نعم!
– لدي رسالة من أجلك.
وأخرجت هاتفًا ذكيًا من جيب بنطالها القصير، لتلتقط عيناي فخذيها العاريين غير النظيفين.
أسرعت بدخول الصيدلية، ولبست بسرعة درع الوجه البلاستيكي الذي سلمتنا إياه نقابة صيادلة الإسكندرية، في محاولة منها لحمايتنا من انتشار فيروس كورونا، من المعروف بالطبع أن الصيدليات لا تُغلق أبوابها مع بدء حظر التجوال.
تذكرت قصصي القصيرة، وإدعاءاتي بأن فُلانًا وعلانًا من الكائنات الغريبة يأتون إليّ لنتحدث ونعبث معًا، لكن ما أراه أمامي حقيقي تمامًا، ضغطت زر المسطرة في لوحة المفاتيح، وتابعت مشهد إسقاط جيس سليمة لأُخرى مُقنعة من فوق السفينة، لتغرق في غياهب المحيط، أو هكذا ظننت.
– هل أنتِ ميليسا جورج؟ المُمثلة الأمريكية؟
– من؟ كلا، اسمي جيس! أرجوك استمع للرسالة علك تُنجدنا.
– أُنجد من؟
– استمع فحسب.
– هل أُحضر لكِ كوب مياه؟
– إذا تفضلت.

“مرحبًا..
اسمي ريان بنتلي، وأعمل ك..
المشكلة أنني لا أتذكر!”
أوقفت مُشغل الموسيقى في هاتفها، كانت قد جلست على المقعد الخشبي في الجهة المقابلة للشارع من الصيدلية.
سألتها:
– لقد بدأت الغرابة بالفعل، ريان بنتلي اسم شخصية اختلقتها في روايتي الطويلة المُسماة (فارس الحق)! لكني لم أنشرها بعد.
نظرت إلىّ شذرًا وقالت:
– طعم المياه مُقرف!
ثم تابعت:
– هل تعرف مصير ريان في روايتك؟ أكيد.. فأنت من ألفتها!
– في الحقيقة لا أتذكر بالضبط، أذكر أني سميته في البداية ريتشارد حداد، ثم غيرته لريان بنتلي، بريطاني يعمل في مؤسسة علمية ما، سيُساعد فارس الحق في التعرف على طبيعة الزمن في عالمهم، وسيفقد ذراعه في وقتٍ ما، لم تُنشر الرواية بعد كما قلت، وسأسمح لنفسي بتعديلات كثيرة إلى أن أصل لمستوى مُرضٍ.
أزاحت خصلات شعرها الأشقر جانبًا، وقالت وهي تُشير هاتفها:
– أكمل الاستماع من فضلك.
تطلعت إلى عينيها الحائرتين، ضغطت زر التشغيل َرأسي تدور به مئات الأسئلة:
” لكني أتذكر سبب وجودي في مصر، القصة طويلة فافسح صدرك لي إذا سمحت، إذا كنت من أعرف أنه فارس الحق فستُدرك المُعضلة بسرعة فائقة، أرجو أن تستنتج حلًا ما!
عام 1981، شاركت في تجربة نفسية مُختلفة بعض الشيء، في بورتلاند، أوريجون، اسمها (بولي بايوس)، لعبة فيديو قديمة حازت شعبية هائلة، إلى حد إدمان بعض الشباب لها، تكونت طوابير طويلة أمام الماكينات، كُنا نُتابع اللاعبين وتقدمهم، وفي الليل نجمع بياناتٍ مُعينة، زرعنا مُستقبلاتها باحترافية، تختلف عن البيانات التسويقية المُعتادة التي تجمعها آلات الألعاب من زوارها، نختبر بها ردود أفعال نفسية وجسمانية لللاعبين.
عانى اللاعبون من سلسلة مُتصلة من آثار جانبية مُنفرة؛ غثيان، وأرق، وصداع مرير، وفُقدان وعي، وفقدان ذاكرة في بعض الأحيان، وكوابيس، وفزع بالليل، وميول انتحارية، عرفنا ذلك من البيانات السالفة، ومع انتشار تلك الأخبار بين الجمهور، روى اللاعبون أمورًا غريبة تحدث في اللعبة، مثل سماع بكاء أنثوي، ورؤية وجوه بشعة عند زوايا الرؤية البعيدة، لا تلبث أن تختفي عند البحث عنها، هذه أمور لم تظهر في بياناتنا!
يُقال أن بعض اللاعبين ابتعدوا تمامًا عن ألعاب الفيديو، عرفت أيضًا أن أحدهم على الأقل تحول لناشط ضد هذه الألعاب.
أطلقت الحكومة اسمًا غريبًا، Sinneslöschen، وهي كلمة ألمانية تعني (محو الإحساس)، اللعبة كانت إطلاق نار وأحاجي وكذا، شبيهة بلعبة Tempest القديمة لو تعرفوها، أنت مصري ولن تعرفها غالبًا.
فكرة أن مُطوري اللعبة لم يُحصلوا أي أموال، فقط بيانات عن اللعبة، هو ما قاد البعض من أصحاب مراكزالألعاب والصحفيين لفكرة أن الأمر كله تجربة نفسية حكومية، من النوع تحت الحسي subliminal.
استمرت اللعبة لمدة شهر واحد، بعد إصدارها، ثم اختفت فجآة كما ظهرت فجآة.
حاول البعض إعادة صنع اللعبة، بلا فائدة، ولم يستطع أحد العثور على ذاكرة اللعبة الأصلية.
هذا لأني سرقتها، بايعاز منك!

أضف تعليق