الضبابيون 2

الجزء الثاني من قصة #الضبابيون
*****
رير ما زال نائمًا.
استيقظت، جلست على طرف الفراش أذكر فضل الرب الواحد، دخلت المطبخ، فغسلت وجهي ثم فتحت المُجمِد، وأخرجت الكبد البقري المُجمد.
هناك جزار هندي مسلم في ضواحي لندن، يمدني بخمسة عشر كيلوات من الكبد البقري الأحمر، بدمه كما يقولون، ويضع كل ربع كيلو في كيس وحده، فأضعهم في المُجمِد سعة عشرين لترًا، وتكفيني هذه الكمية شهرًا بأكمله.
صباح كل يوم، أكل مائتي وخمسين جرامًا من الكبد، وكذلك ابني رير، أحافظ على عمري المديد بهذه الطريقة، وعندي يقين أن ابني يملك نفس الهبة، فليأكل معي إذن.
في البدء أمسح (الطاسة) جيدًا، وأُجففها منالماء وما قد يعلق بها، ثم أضعها على نارٍ خفيفة حتى تجف تمامًا، ثم أضع ملعقتي زيت، يسخن قليلًا ثم أضع الكبد فوقه، يتغير لونه الأحمر المصبوغ بالدماء إلى لون رصاصي مُحبب، ثم أضع قطع الفلفل الحارق وكميات مضبوطة من الكمون والشطة والخل والثوم المبشور.
طبق كبد يومي، جعلني أعيش كل هذه القرون.
رير ما زال نائمًا، لكن البوابة استيقظت.
لا تأكل أبدًا، لا تتحدث أبدًا، ولكنها تنام وتصحو حين تُريد.
أجلستُ البوابة على كرسي يواجهني، عيناها الساهمتان لا تلتقيان بعينايّ أبدًا، لا أذكر أنها فعلت منذ مُدة طويلة، منذ أول مرة حاول فيها أحد الحمقى اختراق البوابة.
أنهيتُ طعامي، ثم أيقظت الغالي رير، يجب أن يأكل في الصباح الباكر، ليُحافظ على عُمره، أتمنى فعلًا أن يحل محلي يومًا.
حممته وألبسته ملابس نظيفة، ثم حممت البوابة وألبستها رداءًا خفيفًا أبيض، قالوا لي قديمًا أنها تُحب هذا اللون، مشطت شعرها ثم أجلستها على أريكتنا المُريحة، وجلست قبالتهما، أُردد تراتيل صلاة الصباح.
وهكذا تنقضي أيامي.
*****
كما قُلت، أنا لا أتذكر أسماء من أفقدهم، في الحقيقة أنا لا أتذكر سوى رير، لأنه يعيش معي الآن، ولأني أمل أن يحل محلي يومًا..
لقد كررت ما قلته منذ لحظات.. إشارة سيئة، ربما هي عواقب ما حدث اليوم، أُدرِك الآن.. أن أيامي قد أصبحت معدودة.
لا أتذكر الأسماء، لكني أذكر المواقف، أذكر مُحاولتين حاول فيهم بعض الحمقى اختراق البوابة.
كررت كلامي مرة أخرى.. أعتذر.. أرجو أن تهدأ نفسي قليلًا، أعدكم ألا أُكرر كلماتي مرة أخرى.
تقرأون ما أكتبه، كي تتطلعوا على ما هو جديد، لا كي أُكرر ما أقوله كل لحظة وأُخرى!
تشترك المُحاولتان السابقتان في نقاط أساسية: بشري يُكتشف وجود الضبابيين، ويبقى حيًا بطريقة أو أخرى، عالم في عصر من العصور، يُحلل الموضوع ويوصله عقله إلى وجود بوابة تسمح بالوصول لعالم الضبابيين، بشري فاحش الثراء، توصله أمواله وعلاقاته إلى حقيقة وجودي ووجود البوابة، وأخيرًا.. جماعة حاكمة، أو مُستقلة مُسلحة، أو إرهابية، أُناس يستخدمون القوة لتحقيق رغبات من يملك الأموال.
تواجدت تلك الأنواع الأربعة من البشر في كل العصور، وكلهم حاولوا العثور على طريقة للوصول إلى الضبابيين، هُناك عدة أسباب عملت على إفشال تلك الجهود دون تدخل مني، الأول: أن هُناك أُمتين من الضبابيين، ظلال الحرب، ويتواجدون بصورة مُكثفة في مواقع المعارك الضارية، حيث القتل والمذابح وأرواح بشر تنطلق بصورة جماعية ومُخيفة، والفتاة البوابة هي الطريق الوحيد للوصول إلى بُعدهم، أما الأُمة الأُخرى: ظلال السلم، فهم أكثر عددًا، وأكثرشراسة وضراوة، لا ينتظرون الحروب لنيل مُرادهم، ولم يتفقوا مع البشر على شيء، ليس بيننا مواثسق ولا مُعاهدات، وقدراتهم على إيذاء البشر تفوق ظلال الحرب، ولحسن حظ البشر، فإنهم يكتفون بُسرعة، ولا يقضون فترة طويلة في بُعدنا، عكس ظلال الحرب، الذين يبقون عندنا حتى انتهاء المعارك، ويُمكن رصدهم، ورؤيتهم، والتفاعل معهم، بل والدخول إلى عالمهم كما فعل أجداد البشر في عصر سموني فيه جلجامش أو هرقل.
الضبابيون، ظلال الحرب، كائنات لها هيئات شبه بشرية، أوالهم تتعدى الأمتار الخمسة، لديهم رأس نحيف للغاية، كثمرة خيار، هُناك ذراعين، وقدمين، يبدون كأشباح مُخيفة، سواد غائم تتقافز أطرافه هو ما يبدو عليه ألوانهم.
هُم هنا، وكانوا قبلنا، هُم مُسالمون، لا يهاجمون البشر إلا من اختاروا، وهي حالات نادرة، فيها يخترقون أجساد البشر، كما فيموتون، هكذا دون سبب نعرفه، وهُم كائنات عاقلة، لهم دينهم وثقافتهم، ولو أن أحدنا اخترق الحجاب، سيُلاحقونه إلى الجحيم، لن تهرب منهم، وإن استطعت فعلها، بوسيلة أو أخرى لا أعلم كنهها، سيحومون من حولك، لن يُفارقوك أبدًا، حتى تُقدم لهم من جسدك ما يُرضي بطشهم، تقطع قدميك فلسانك فيديك فعينيك، ويُمكن أن يرضى عنك الضبابي في أي لحظة، وعند أي عضو، ويُمكن أن تتخلص من حياتك ومن الأمر كله.
أتعلمون؟! في المُحاولة الأولى، جاء عشرات الجنود المُدرعين، تُخفي رؤوسهم أقنعة لصقر حاد المُنقار هو أحد آلهة مصر القديمة، قتلت منهم الكثيرين لكنهم تمكنوا مني في نهاية المعركة، أخذونا إلى مكان مُظلم، ربطوا الفتاة، ضربوها واغتصبوها وأسالوا دمائها، في المُحاولة الثانية كانوا جنودًا يرتدون على معاصمهم أربطة قُماشية رُسم عليها صليب معقوف، وقد فعلوات مع الفتاة أشنع مما فعل سابقيهم، كان معهم طبيب مجنون صب في عروق البوابة أنواع وألوان من السوائل.
وفي المرتين نجحوا في استحضار الضبابيين، فقتلوهم جميعًا.
لم ينجح السيف ولا الرمح ولا الرشاش ولا قاذف اللهب في صد هجمات الضبابيين، وكل ما يفعله الضبابي هو الركض والعبور عبر الأجساد.
ثم صمت وموت تام.
*****
طرق أحدهم الباب فجآة!
من طرق الباب؟ لا أعرف، لا أحد يعرفنا ولا أعرف أحدًا!
فتحت الباب، لا أحد بالخارج، توقعت هذا، هذا ما حدث في المحاولتين اللتين ذكرتهما!
هل هي مُحاولة جديدة؟!
وجدت بعض الأوراق الصفراء تتصدرهم ورقة كُتب عليها:
– هام جدًا.. إلى حارس البوابة.
هُناك من يعرفني في زمننا هذا، يبدو ان المُحاولة الثالثة تقترب، لكننا اليوم لسنا وحدنا، ابني، إذا مس أحدهم ابني، فليكُن الدمار!
فلأقرأ الأوراق أولًا.
*****
اللعنة، أليكساندر بافلوفيتش، جندي يوغوسلافي عرف عن الضبابيين، وبحث عنهم ضمن فرقة استكشافية يرأسها رجل مصري يُدعى مُراد الصايغ، يعرفون كل شيء عنهم، لكنه لم يذكر شيئًا عنا، لا البوابة ولا حارسها، لكنه يذكر امرًا أكثر إخافة.
أنا أخاف؟! بعد كل هذه القرون؟!
دكتور مُراد هذا صنع نظارة من نوع ما تسمح للبشر برؤية الهيئة الحقيقية للضبابيين، وجسب وصف بافلوفيتش فإن هذا قد أغضب أحدهم، فهاجمهم دون أن يُقاتلونه، ودون أن تكون المنطقة التي وجدوه فيها منطقة حرب، لم تصل حرب البلقان إلى بلغراد بعد، ولكن من يدري!
قتلهم الضبابي، هذا جيد، ولكن هنا تأتي فكرة مُخيفة أخرى.
لقد استغلوا فكرة علمية ما، أسموها قفص فارادي، خيمة صُغيرة مُحاطة بشبكة من الأسلاك تمنع المجال الكهربي الذي يُصدره الضبابيون، فلا يستطيعون سبيلًا لمن هم بالداخل.
ويقول بافلوفيتش أن دكتور مُراد -ورغم أن قدم قدمه للضبابي، على سبيل التضحية وأملًا أن يتركهم- اُختطف ولم يجد له أثرًا، سوى أبحاثه عن الضبابيين، وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ!
ما قرأته بعدها ربما يُشير للسبب.
حينما عاد بافلوفيتش لبلغراد، قابل راسم مُراد الصايغ، رجل أعمال نجح -وياللهول- في أسر ثلاثة من الضبابيين، أحاط كل واحد منهم بسياج بيضاوي مُضيء، تُحيط به ثلاثة أعمدة تتوهج بلون أزرق.
بل وطلب منه ان يُساعده في القبض على أخرين.
يأسرون الضبابيين؟
إنها نهاية العالم، هذا بالتأكيد سبب الحرب القديمة بين البشر والضبابيين.
يأسرون الضبابيين؟
كان البشر في عصر سحيق قليلي العدد بالغي القوة شديدي التطور التكنولوجي، ولما فعلوها مع الضباببين كادوا يفنونهم، لا أتذكر حقيقة كيف تمكنوا من إيقاف الحرب، ولكن..
يأسرون الضبابيين؟!
هل سأُردد كلماتي كثيرًا؟
هذا حدث بالضبط حين أُضيئت كل أضواء الشقة بكل قوة، التلفاز كان مُطفئًا، ولكنه ليس كذلك الآن، هُناك اثنين من الضبابيين يتوسطون الشاشة، وشوشرة كهربية مرئية ومسموعة تصدر منهم، ثم تكلموا بلغتنا أخيرًا:
– يا اهل الأرض، السلام على أهل السلام منكم، نحن أمة الضبابيين، ظلال الحرب، كُنا هُنا قبلكم، جئتم بعدنا فحباكم الرب القوة والعقل، والسيطرة على الأرض والهيمنة، اتخذنا لأنفسنا بُعدًا بعيدًا غير مرئي، كي لا تحدث بيننا صدامات لا تُحمد نتائجها.
منذ عشرات الألاف من السنين، حين كان السومريون أعظم من في الأرض، تقاتلنا، وبفضل الرب جاءنا واحد منكم، فقتل أكثرنا بطشًا، وأفظعكم شرًا، وأحل السلام الدائم بيننا، وضحى بابنته لتكن بوابة مُغلقة دائمة بين عالمينا، جلجامش أسد أوروك، أنت تسمعنا الآن، وأنت القادر على وقف بطشنا بكم.
تعرف أنك قاومت الكمتيين، والنازيين، وهم أكثر بطشًا ممن هم في عصرك اليوم، لكن العلوم التي في يد الصرب اليوم، ستُفني البشر عن بكرة أبيهم.
البروفيسور المصري مُراد الصايغ، حباه الله القُدرة على رؤيتنا، وهو ليس أول من يقدر على هذا، كان رجلًا عاديًا في مصر له زوجة وابن، فتركهما وهام في القارات بحثًا عنا، تركناه وشأنه، لكنه اتحد مع الصرب منذ ثلاثين عامًا، وتزوج وأنجب، وعرف عنا الكثير، وهو الآن في حوزتنا، نقول هذا لابنه راسم، أنت أسرت ثلاثة منا، أحدهم هو أصغرنا سنًا، وهذا قبح لو تعلم عظيم، أنت استطعت فتح بوابة أخرى غير ابنة جلجامش، وأردت أن تستخدمنا كأسلحة ضد بني جنسك، فقط لاختلاف عقائدكم الدينية.
حسن، لا يلزم ان تبذل مجهودًا فوق هذا، إن لم تفك أسر بني ضبابنا خلال يوم من عُمركم، اعتبروا أنفسكم أيها البشر جنسًا مُنقرضًا.
يا جلجامش، يا أسد أوروك، ابنتك والعدم سواء، نأسف لك على هذا، أقتل راسم، ودمر كل أبحاثه، وإلا.. فإنك قد قضيت عمرك كله دفاعًا عن.. لا شيء! لا أحد سيبقى ليحكي ما سنفعله! لا أحد!
*****
يُتبع..

أضف تعليق