رجل يُدعى الموت

هل يُمكن اعتبار النص التالي قصة قصيرة؟ أم هو حسب رأي كاتب كبير مُجرد ملخص لرواية؟
احكموا بأنفسكم!
***
“كان عليه أن يقترب جدًا كي يرى أنه رجل عجوز، عجوز جدًا، يندس وجهه فى الطين، وعلى الرغم من جهوده المهولة، لم يستطع الوقوف، تُعيقه أجنحته الضخمة”
هكذا بدأت القصة، التى كتبها جابرييل جارسيا ماركيز -الروائي الكولومبي الشهير- عام 1955.
انطباعي عن ماركيز كان سيئًا، إنه الروائي الذى يتحدثون عنه فى فيلم (السفارة فى العمارة)، حين يأتي الاشتراكيين المُتحررين ويتكلمون عن (الحب فى زمن الكوليرا) و(مدينة البهائم)، بصوت مُتنطع رقيع، بُث فى روعي مُباشرة أنها روايات عفنة، بالطبع، لابد أن بها من الإباحية وسب الله ما بها، وإلا فلما يُروجون لها فى تلك النوعية من الأفلام؟
لما بدأت مشواري فى الكتابة الأدبية عرفت أن هناك فرقًا بين الراوي الذى يحكي القصة وبين الكاتب نفسه، وأنه لا يصح الخلط بين الاثنين، وعرفت أن الفانتازيا ليست كالواقعية السحرية، الفانتازيا التى أحبها هي ما كتبت أقلام تولكين ورولينج و مارتن، أحداث غريبة فى أرض غير أرضنا التي نعرفها، أما الواقعية السحرية فتحدث هنا، على أرضنا، ولكن أحداثًا غريبة تقع، ولا تجد لها تفسيرًا مُقنعًا فى النهاية، ربما يكون الحل فى الرمزية، أو ربما فى بعض الحيل السردية التى يستخدمها الكاتب، شيء من هذا وذاك.
ما أعرفه الآن يقينًا، أن ماركيز هذا عبقري، لم أقرأ رواياته الطويلة، كل ما قرأته هو (قصة موت مُعلن) و(كيف تكتب الرواية؟)، ولم استطع اكمال (اثنتا عشرة قصة قصيرة مُهاجرة)، ومنعتنى أول جملة فى (الحب فى زمن الكوليرا) من قراءتها، أحسست أني سأقرأ رواية أسبانية ذات أسماء مُعقدة وهو ما لم استسيغه، على النقيض من الجملة الأولى ل(مائة عام من العزلة) التى شجعتني على قراءتها، وعلى الرغم من ذلك، لم أفعل أبدًا.
كنت أقرأ القصة بالإنجليزية، قبل موعد نومي بدقائق، مما يستلزم مجهودًَا عقليًا إضافيًا، ورغم ذلك، فإن النوم قد غلبني بضربة قاضية، لأني لم أشعر بنفسي أسقط فى دوامات اللا وعي.
لا وعي؟ لقد وعيت تمامًا ما أراه أمامي، رغم غرابته، كانت الحياة دائرة حول سريري، أفراد عائلتي يتناوبون أفعالًا لا أدرك ما هي، هناك شيء ما يُكبلني فلا أقدر على الحركة، هل هذا الظل غير واضح الملامح الذى يقف فوق صدري هو الجاثوم؟!
***
كان يومًا غريبًا منذ بدأ، لاحظ الناس أن الظلام يسود الدنيا، في الصباح، اختفت الشمس خلف سحب كثيفة، منعت ضوءها من اجتياح الأرض، وفي الليل، توسط القمر عباب السماء، وقد تضخم، واكتسب لونًا أحمر مُخيف، اعتقد الناس أن ما يحدث ظاهرة كونية معروفة، لكن الوضع استمر عدة أيام، تتعاقب فيها الشمس المُتدثرة خلف السحب باستحياء، والقمر الذي تشبع بلون يهابه الجميع، ظهرت عدة تفسيرات تحاول الاقتراب من حقيقة الأمر، لكن أقسى تفسير هو ما قدمه الداعية العجوز عبر محطة الراديو، أن الشمس تشرق الآن من المغرب، أخذ يُقدم الدليل تلو الأخر، لكن أحدًا لم يستمع إليه، لقد تسرب الذعر إلى قلوب الناس، وقد علموا أن ساعة القيامة قد اقتربت، لكن بعضٌ ممن يُعمل العقول منهم قالوا أن هذه سفاهة، لأنهم لو استخدموا المنطق الديني الغيبي فلابد أن تبدأ علامات القيامة بأمور غير ما يحدث الآن، كظهور الدجال وخروج يأجوج ومأجوج، وهنا بدأت التأويلات، وكُلٌ يدلو بدلوه.
في هذا اليوم، ظهر شاب في القاهرة يدعي أنه الموت، قال أنه كان يقرأ قصة قصيرة كتبها ماركيز تُدعى (رجل عجوز جدًا ذو أجنحة ضخمة) قبل أن يغلبه النوم، وقبل أن يستيقظ وجد كيانًا أسود ضخم يقف فوق صدره، التصق به وأصبحا كيانًا واحدًا، قال أن هذا الكيان هو الموت، الذي يحصد أرواح البشر منذ قديم الأزل، أما هو، فقد أصبح المنجل الذى رسمته الديانات بيد ملك الموت، أخر ما يمس الأرواح قبل أن تخرج من الأجساد، فتصرخ أو تنعم.
علا صوته حتى أسمع شتى بقاع الأرض، كان يصرخ بحقيقته، فيفهمه الناس كل الناس، على اختلاف ألسنتهم وتفكيرهم.
إن الدماء لأسطورة، هكذا قال أحد شخصين يتحدثان عنه، لعنة أصابت البشر منذ قتل ابن أدم أخيه، وبالتالي، لا يُعد ملك الموت ولا منجله الأسطوري وسيلة لموت البشر، الشر كامن فى نفوسهم، ولا يأتي من قوة ما ورائية، وذكر أتروبوس Atropos، إلهة الجحيم الأغريقية، التى تسعى لقص خيط حياة الناس، نفس الخيط الذى تغزله أختها كلوثو Clotho، وتقيس طوله أختها الثالثة لاكيسيس Lachesis.
إن البشر القدماء حاولوا تنزيه أنفسهم من النقص، وإدعاء قوة خارقة للموت، لكنهم ما لبثوا أن أكسبوه صبغة بشرية، كما أكسبوا كل الإلهة القديمة أجساد ووجوه بشر.
الأخر قال أن هذا هُراء، لو أن الموت ليس شرًا خارجًا عن إرادة البشر، فلماذا يُعذب الله القتلة فى النار؟ كان سؤالًا بسيطًا بالنسبة له، ذو إجابة واضحة، لكن زميله لم يقتنع بهذا، وهو المُنكر لكل ما هو وراء الطبيعة.
“والشيء المفاجئ، كان منطق وجود جناحيه، كانا يبدوان طبيعيين جدًا على هذا الجسد البشري، حتى أنه لم يفهم، لماذا لا يملك الأخرون جناحان مثله؟”
***
الآن، بعدما سمع العالم كله بما يقوله الرجل الذى يدعي أنه الموت، وشق على الناس كثرة التفسيرات، والمهاترات، فضلوا دون توافق ظاهر منهم أن يستقروا على رأيين لا ثالث لهما، حقنًا للمناظرات، وكان لكل منهم أدلته.
الفريق الأول قال أنهم يريدون حياة جديدة، أعوام أخرى من الحياة دون خوف، لقد رأوا كما رأى العالم أن الموت لم يتوقف، ما زال هناك من ينتحر، ومن يقتل، ومن يموت قدرًا، ومن يموت على سريره، لم يتوقف الموت رغم تجسده فى شخص، صحيح أن كل من تحدى الرجل الذى يدعي أنه الموت، وصافحه باستهتار، خر ميتًا دون سبب، ينظر الناس إلى الرجل الذى يدعي أنه الموت فلا يرون أثرًا للمشاعر على وجهه الجامد، وحين يقرأون تقرير تشريح الجثة، يجدون أن سبب الموت واحد في كل حالات مُصافحة الرجل الذي يدعي أنه الموت، إن السائل الحيوي الذي يُبقي الجسد دافئًا قد تبخر، لا دماء، والأوعية التى يجب أن تحويها وكأنها قُصت بمقص حاد، قالوا أن لعنة الدم قد أصابتهم، وأن الرجل لا يدعي أنه الموت، بل هو الموت نفسه، قد صدق في هذا، وقالوا: أتركوه وشأنه، فلن يتغلب أحدكم على الموت.
أما الفريق الثاني فقالوا: إنه الموت، المُجرم، الذى قتل أكثر مما قتل هتلر وجنكيز خان، الذي يأخذ أرواح العجائز الراقدين على أسرتهم، والأطفال وهم يلعبون بين ظهراني أهليهم، إن الإنسان من تراب، ومآله إلى التراب، وهناك الآن فرصة لإيقاف هذه الدورة المقيتة، هناك فرصة كي يكتسب الإنسان الخلود، لو أن الرجل الذي يدعي أنه الموت هو الموت فعلًا، فإنه لا يستحق العيش، إنه يتخفى في ذلك الجسد البشري، وفى نفس الوقت يذهب بطرقه الميتافيزيقية ليُمارس دوره الأزلي: قتل البشر.
قالوا: ما ضرنا لو أننا قتلناه؟ لو أنه ليس الموت، فسنُنهي دين جديد كاذب، ويعود للناس رشدهم، ولو أنه الموت حقًا كما يدعي، فأقل ما سيكتسبه البشر هو الخلود، أي لا موت.
هل سيأتى يوم ويتغلب الانسان على الموت؟ لا يعتقدون بذلك، ولكنهم يأملون أن يأتي من ينجح فى تحقيقه.
غرقت الشوارع والحوائط بالجملة اللاتينية:
”Homo, qui pulvis es et in pulverem revérteos”
أيها الانسان، إنك من تراب وإلى التراب تعود، أنصار الفرقة الأولى يكتبونها، وأنصار الفرقة الثانية يمحونها، ويرسمون يد إله عجوز يذبح كبش ضخم.
بعد مناوشات عنيفة، وحروب أهلية فى كل مكان، راح ضحيتها ما لا يُعد من البشر، نجح أحد أنصار الفريق الثاني فى طعن الرجل الذي يدعي أنه الموت عشرين طعنة، سالت دماؤه على أرض القاهرة، رقصوا فى الشوارع، وحملوا القاتل على الأعناق، لكنه مات فجآة، بسكتة قلبية من الفرحة، حيث لم يتصور دخوله موسوعات التاريخ كالرجل الذى صرع الموت.
وبقى الناس فى حيرة، ماذا حدث؟ هل قتلوا الموت فعلًا؟ فلماذا مات قاتله بعده؟ هل أصابته لعنة الدماء؟ فإن لم يكن هو الموت، فكيف كان يموت مُصافحيه من مُجرد المُصافحة؟
انقشعت السُحب الكثيفة عن الشمس، فعاد بعض من الأمل إلى القلوب، وما لبث أن انقشع كما انقشعت السحب الكثيفة، حين برز القمر الدموي مرة أخرى، وعرف الناس أسئلتهم ستظل دون أجوبة، مُستمرين في غثائهم القديم.
“ظلت تراقبه وهى مُستمرة فى قطع البصل، ظلت تُراقبه حتى لم يعد بإمكانها أن تراه، لأنه لم يعد مصدر إزعاج لحياتها بل نقطة خيالية فى عرض البحر”

أضف تعليق