الضبابيون 1

(١)
الأسماء.. لا أتذكر الأسماء.
تجري الدنيا من حولي، يأتي الناس ويروحون، ويتركوني وحدي، أبقى وحدي، أعيش وحدي، يجري الزمان معهم، ولا يظل شيئًا على حاله، سواي.
وحدي، أصل بين عالمين يركضان، بسكانهما وأحداثهما، بماضيهما وحاضرهما، وأنتظر مُستقبلهما المُتوقع كما يفعلان.
ومن هذه النظرة، أنا إنسان، مثل ساكني العالمين.
لكني لست مثلهم.
أنا لست إنسانًا، ليس كما تفهمون!
***
في أحد هذه العوالم، والذي يسميه سكانه ب(الأرض)، كوكب متوسط الحجم يدور في فلك مجرة ضئيلة أسموها الطريق اللبني، أو درب التبانة، ولهذا الاسم قصة طريفة، عرفتها في أول أعوامي كصلة وحيدة بينه وبين عالم الضبابيين، قبل ما يقرب من أربعة ألاف عام قبل ميلاد المسيح الأرضي، يُقال أن هرقل بن زيوس كبير آلهة الأوليمب، رضع من هيرا لبنًا إلهيًا دون أن تدري حقيقة نسب هرقل، دون أن تدري أن ابن زيوس والإمرأة البشرية هو من تُرضع، فلما فطنت لمكره ألقته بعيدًا، وانسكب لبنها ليُكون الطريق اللبني، المجرة التي تحوي ألاف النجوم ومئات المليارات من البشر.
قصة طريقة؟ بالتأكيد، هل هي حقيقية؟ ربما، لقد اخترقت وجدان شعوبهم وهذا يكفي، الحقيقة نسبية، هذه هي الحقيقة التي أعرفها، ولا أعرف غيرها.
***
ألم أقل أني لا أتذكر الأسماء؟ لم أكذب، لقد عاصرت ألاف البشر، ومئات الضبابيين، ولكنهم فانون، يذهبون ويأتي غيرهم، بأسماء وطبائع مُغايرة، لا يتسنى لي الوقت كي أشعر بهم، عُمري المديد نقمة عظيمة من هذا المنظور، لدي مهمة ولا يُمكن لغيري القيام بها، حاولت مرات عديدة أن أندمج مع البشر، حيث أصلي الحقيقي، تزوجت عشر مرات، فلم تقدر إحداهن على تجاوز الولادة الأولى، ولم يرث أطفالي شيئًا مني سوى الشكل البشري، وكلهم ماتوا وهم في طور الحبو.
إلا ابني هذا، المولود عام ١٩٩٠ من بعد مولد مسيح الأرض، اسمه، أتذكر اسم هذا الشاب، رير Rare، لأنه نادر، الوحيد من نوعه، أمه أيرلندية، إمرأة قوية تعايشت مع أوضاع بلدها المُتفجرة في تلك الفترة، لقد تجاوزت الولادة، واحتفظت بعنفوانها، هل سيحيا ابنها؟ بالتأكيد، إنها فرصتي لأنال ابنًا أخر، لن يموتوا هذه المرة، لأن أمهم سيدة قوية.
الأسماء.. لا أتذكر الأسماء.
لم تتحمل المسكينة، ماتت وهي تلد طفلة تشبهها، لم يتجاوز عُمر رير وقتها عشرة أشهر، نسيت اسم أمهما بسرعة، لا أتذكر الأسماء، نقمة عظيمة، اسميت الفتاة باسم قريب من اسم أخيها، بريشيوس precious ربما، لا أتذكر الأسماء، ماتت في نفس عُمر أشقاءها على مر العصور.
لكن رير بقى، هل ورث عُمري المديد؟ إنه يكبر، ويشتد عوده، وقد علمته سري فتقبل الأمر، لكنه لم يتقبل أني لا أذكر أسماء الفانيين.
متى سيتوقف جسدك عن التقدم في السن يا رير؟ في العقد السادس مثلي؟ هذا أغلب ظني.
الأسماء.. لا أتذكر الأسماء، ولكني أذكر اسم ابني عزيز الذكر، رير بن هرقل.
هرقل الحقيقي.
***
لقد لُعنت منذ أمد بعيد، كُتبت قصتي على أحجار من الطين في عهود السومرين والبابليين، ونُسجت حولي أساطير الإغريق، لا أذكر ما حدث بالضبط، لا أذكر أسماء البشر، اللعنة أصابت ذاكرتي في مقتل، تحيا لحظات وتموت دهورًا، يقولون أني كنت ملك أوروك، من سلالة أور الثالثة، يقولون أني بنيت أسوارها ومعبدها العظيم، أني كنت عظيم الجسد، ثُلثي إله وثلث بشري، يقولون أن الألهة خلقوا إنكيدو ليكون ضدًا لي، لأني كنت اضطهد سكان مدينتي، أجمعهم عندي بالطبول، وأدخل على العرائس قبل أن يدخل عليهم أزواجهم، يقولون أني قتلت خُمبابا المارد، حارس غابات الأرز، والثور السماوي التي أطلقته عِشتار، يقولون أن إنكيدو مات عقابًا من الآلهة، وأني طلبت الخلود من أوتو-نابشتم القاسي، كي لا أموت مثله، ولكن جلجامش في قصصهم فشل في العثور على الخلود، وكذلك فعل الإسكندر الأكبر، وذي القرنين، بل يقولون أن هرقل بن زيوس -وهو اسمي الذي أتذكره- هو جلجامش نفسه، أسد أوروك، لا أذكر كل هذا، لا أذكر سعيي نحو الخلود، ولكني أعرف أني خالد بالفعل.
***
سأقص عليكم ما أذكره، ولن اختصر لأن معلوماتي في الأصل قليلة، أنا أصلُ بين عالمين اثنين، اثنين فقط من بين عدد لايُحصى، ولا يعلم بوجودهما أحد، سوى من يُمكن عدهم على الأنامل.
أحرس بوابتيهما، وهما ليسا بوابتين بالمعنى المعروف، فعند البشر نجد الأبواب الحديدية والمُصفحة والخشبية والإلكترونية والليزرية والخلوية، وعند الضبابيين نجد البوابات المُضيئة، أما بوابات العوالم، فهي أشخاص، كائنات!
البوابة بين العالمين فتاة، في الثانية عشر من عُمرها، لا تشيخ مثلي، ولكنها وُلدت قبلي، نتنقل من مكان إلى مكان طيلة القرون الماضية لنحميها من انكشاف سرها، الأسماء، لا أذكر الأسماء، اللعنة على عقلي، إنها البوابة فحسب.
لا أتذكر كيف كُلفت بهذه المهمة، ولكني أتذكر بعض الشذرات حين تلمس البوابة يدي.
أتذكر أرضًا فضاء، يكسوها تراب أحمر، وسماء مُظلمة، لون أسود غلب كل شيء، هُناك ضوء ينبعث من مكان ما، وهناك رجل من البشر، كثيف الشعر واللحية، أشيبهما، وهُناك ضبابي قزم، شديد قصر القامة بالنسبة لأقرانه، ما أراهما عليه ليس كما يريان نفسيهما، تختلف الأبعاد ومستويات الرؤية والوجود، عوالم تفترق وتختلف، ولا يُقابل المُختارون من سُكانهم بعضهم البعض إلا بعد أحداث رهيبة.
كنت هُناك، مع الفتاة الشابة، لم تكن قد أصبحت البوابة بعد، ما أذكره أن البشر والضبابيين، معًا، لكن دون أن يلتقي أحدهم بالأخر، انتصروا على شر مخيف، يعيش بين العوالم، واحد من بين عشرات لا يُمكن لحيز عالم أو اثنين احتوائهم، وربما كان هذا سبب تعطشهم للبطش والطغيان، وسعيهم الدائم للبحث عن منفذ يستعبدون به من لا حول لهم ولا قوة.
كيف انتصروا؟ من يعرف؟ بالسحر ربما، طلاسم تُعينهم غلى استدعاء كائنات شيطانية ربما يقدرون على هزيمة شرور كونية تطوف ما بين العوالم، ربما أتوا بسلاح مُستقبلي قادر على إفناء الأرواح بمجرد التفكير فيه، كل يجري إلى قدره!
قرر مبعوث البشر ومبعوث الضبابين إغلاق البوابة بين عالميهما، وحصرها في تلك الفتاة المسكينة على ألا تبقى في مكان واحد طوال الزمان، فتبتعد دومًا عن كل خطر يهدد السلام بين العالمين، وكلفوني أنا، هرقل بن زيوس، جلجامش أسد أوروك، بحمايتها حتى يقضي الإله الواحد بأمره الذي لا يُنازع فيه.
لازمت الفتاة على مر العصور، لم يُحاول أحدهم عبور البوابة، لكن هُناك من حاولوا النيل من الفتاة، لسبب أو أخر، وكانوا جميعًا من البشر، كنت أقضم رقابهم، وانتزع أطرافهم، وأُلقي بها إلى عالم الضبابيين، ولعمري هذا أشنع خطأ وقعت فيه.
*****
*****
*****
سأُعجل بنشر الجزء الثاني على حسب التفاعل، اكتبوا رأيكم بكل صراحة ولن أنزعج من النقد.
تذكروا أن القصة تربط بين #شقوق_الفزع و #قصتي_مع_جلجامش، وقد ظهر الضبابيون بالفعل، ظلال السلم وظلال الحرب في رواية شقوق الفزع.

أضف تعليق