أركضي-قصة قصيرة

لقراءة القصة بصيغة Pdf اضغط على الرابط

أركضي

في صيدليتي، حيث أكتب وأبحث عن الخوف، حكت لي قصتها التي لا تستطيع تأكيد حدوثها من عدمه!

لماذا أتت؟ هذا مما لا يُهم، أقابل في الصيدلية كل أصناف البشر، الجيران والمرضى والزملاء من الصيادلة والكُتاب، كل البشر الاعتياديين، الذين نراهم في كل حين، وكذلك.. بعض أصناف غريبي الأشكال والتصرفات، كتلك السيدة، رغم أن هذا لم يتجلَ عليها في البدء، عكس ما بدر من رفيقيَّ ليالي الوحدة والكتابة، وأكثر ما أستاء منه هو ما يُسمي كل مُنهما نفسه: السلندر مان! وذاك الرجل!

بحق، هذا مُسيء لعقلي بما يكفي، لما لا يوحدان اللغة على الأقل؟! فنُسمي أحدهما: الرجل النحيل جدًا جدًا! على سبيل تقريب المثل بالطبع، ويُمكننا تسمية الأخر ب This man! كما يفعل الملايين حول العالم ممن يدعون أنهم قد رأوه في أحلامهم، وهو ما لا يُنكر حدوثه.

من العجيب أن يُطلق أحدهم على نفسه لقب (ذاك الرجل)! أظن أن لقب (أنا ذاك الرجل) أكثر منطقية.

قالت لي:

– عرفت أنك مُهتم بالخوارق والقصص الغريبة،  أتابعك على الفيس بوك.

هززت لها رأسي فتابعت:

– هُناك قصة حدثت لي شخصيًا، عجيبة، لا أعرف لها تفسيرًا.

لم يكن الوقت مُتأخرًا لهذه الدرجة، الشتاء على الأبواب، جيراني أغلقوا باب دكانهم، هدنة طويلة منعت دخول الزبائن الصيدلية، هذا تشبيه تعريضي بالطبع، وإلا فما هم بزبائن، ولم توقع هُدنة ولا شيء، ما أُريد قوله هو: ليس هُناك ما يُمكنه قطع ثرثرة تلك المرأة، التي لا أتذكر أني رأيتها من قبل!

– في الشتاء الماضي، سافرت مع زوجي وابنينا، زياد وأنس، إلى بلدته ومسقط رأس والده رحمه الله، الطريق الزراعي ذاك مألوف لنا، نعرف تفاصيله جيدًا، لأنها ليست أول مرة نسير فيه، أعرف مداخل الجسور الثلاث، وبيوت الحمام الطويلة، أتعرفها؟! تشبه عمالقة بنية اللون أُحادية الأعين! وكذلك عم سالم صاحب الكشك المُكتظ بالبضائع، زوجي يشتري من عنده أنواع السكاكر والمرطبات منذ حداثة سنه، واستمر على عادته تلك سنوات طوال، الأراضي الزراعية على جانبي الطريق مألوفة، رغم أني لا أفقه شيئًا عما يزرعونه هُناك، لا بد أن أرى قنوات المياه والمضخات اليدوية والكهربائية والفلاحين بأرديتهم المعروفة، وحيواناتهم، البقر والجاموس والطيور و.. لكن خنازير! كانت هذه أول مرة أرى فيها حقلًا شاسعًا يمتلئ بالخنازير، أتعرف تلك الحيوانات البغيضة التي نراها في التلفاز؟ ويحرُم علينا أكلها؟ إنهم يربونها هُناك!

ألا تعرف من هم؟ سأُخبرك!

مكان مقيت، رائحتها أشنع من جيفة كلب، لا تملك إلا أن تُفرغ ما بجوفك، وهو بالضبط ما فعلته أنا وولديّ، تلوثت رؤيتي بمرأى الطين الذي يغمر الأرض التي نعبرها، طين أسود مُخيف، وكأنه محروق، غير الطين المصري الذي نعرفه، رصاصي اللون، المُميز للشتاء.

ومن بين تلك القاذورات، رأيت شبحي طفلين، أحدهما أكبر من الأخر، يسيران بين أجساد الخنازير، ويهُمان بعبور الطريق.

أوقف زوجي السيارة، ينظر إلى الطفلين تارة، وإليَّ تارة، ثم حزم أمره، وخرج من السيارة وتوجه نحوهما!

تابعته، يتقدم ببطء، تجاوز الولدين قذارة الخنازير بالفعل، قدماهما تتعثر بالطين اللين، يقتربان من الطريق المُعبَد.

لكنهما رأيا زوجي، غالبًا، فحاولا الركض بعيدًا عنه!

هُنا خرجت من السيارة، وأغلقت أبوابها جيدًا، وركضت نحوهما.

كانا عاريي الجذع، يرتدي كل منهما حفاضًا مُتسخًا، ولا شيء سواه، تجاوزت زوجي وأسرعت نحو أصغرهما، أمسكته رغم انطمار جسده تحت طبقات من الطمي والاتساخ، انفجر باكيًا، رائحته أثارت غثياني، اقترب زوجي مني وأشار إلى الطفل الأخر الذي ابتعد كثيرًا، أمسك الطفل الأصغر بقوة، لكنه لم يقاوم، ظل يبكي مُنهارًا، ركضت نحو الطفل الأكبر، لم يتوقف لحظة، لكن قدميه الصغيرتين لن يسمحا له بالركض أسرع مني، مهما بلغت همته.

أمسكته بصعوبة، صرخ وحاول التملص مني، كبلت ذراعيه وأنا أصيح فيه:

– اهدئ، اهدئ وأخبرني بما يحدث.

لكنه لم يتحدث، ظل يصرخ ويرفس بكل أطرافه، العجيب أن أخاه الأصغر توقف عن البكاء، إلا بقايا تنهيدات، وقطرات دمع خفيفة تطفر من عينيه.

قررت أن أترك الطفل الأكبر، الأكثر شراسة، لقبضة زوجي، في حين حملت الأصغر، الذي هدأ فجآة، وتوجهت نحو سيارتنا لأتصل بالشرطة فورًا.

سألني ابني زياد وهو يسد أنفه:

– من هذا؟

لم أجبه، إذ ليس عندي إجابة! هل هما تائهان؟ أبناء أحد الفلاحين سُكان المنطقة؟ هل اختطفهما أحدهم؟ هل عذبوهما؟ لما لا يتكلمان؟ كم مر عليهما من الوقت؟ ما سبب رائحتهما العفنة، روث الحيوانات رُبما؟ أم إخراجهما نفسه؟!

قررنا الاتصال بالشرطة ليتكفلوا بالتحقيق في الأمر، لكن شبكات الهواتف المحمولة لم تُسعفنا، حملنا الطفلين في السيارة حملًا، وقاد زوجي السيارة إلى حيث كشك عم سالم!

لن أنسى كيف نظر إلينا ولدينا، ونحن نحتضن الطفلين العارين المُتسخين، يبكي طفلينا فنُحاول تهدئتهما بنظرات حانية قلقة، ويبكي من فنربُت على رأسيهما وجذعيهما، لا بد أن ابنيّ قالا في سرهما: من هاذين؟ ولما يحظيان باهتمام والدينا؟

تخيلت نفسي أقول:

– ستفهمان يومًا يا حبيبا قلبي، وأدعو الله ألا يصل بكما الحال لما هم فيه.

ومن الهاتف الأرضي لعم سالم، أتصل زوجي بالشرطة، وبعد دهر مر بعد دهر أطول منه، جاءوا!

وسرت الأمور بعدها بسرعة مُخيفة!

تحريات الشرطة لم تُسفر عن شيء في  البداية، أخذوا الطفلين فنظفوهما واستدعوا كل القاطنين بالقرب من المكان، لا أحد يعرف الطفلين، هذا دليل يوحي أنهما مُختطفين فعلًا، لقد لاقيا من الأهوال والعفن ما منعهما عن الكلام.

سألت سُكان القرية عن مزرعة الخنازير التي وجدنا الطفلين فيها، فكانوا يستعجبون ويستغفرون ربنا، ثم يُنكرون وجودها بكل ضراوة، قائلين أن أرضهم طاهرة، حتى المسيحيين منهم لا يُربون الخنازير.

ولم يتررد واحد منهم في إنكار ما رأينا.

لا خنازير هُنالك، ولكني رأيتهم بعيناي هاتين، وروثهم العفن غطى جسديّ الطفلين، كيف يُمكنني إنكار هذا؟

قررت الشرطة التحفظ على الولدين لحين إنهاء التحقيقات، وطلبوا مننا الرحيل، بعدما تأكدوا من سلامة موقفنا، وأننا أتينا للقرية منذ ساعة واحدة، قال شرطي أنه يجب التأكد أننا لم نأتِ بالطفلين من الاسكندرية، لأن ما أدعيناه من وجود خنازير، يُثير الشكوك بطريقة مُلفتة.

عُدنا مع الشرطي إلى حيث وجدنا الطفلين، نفس البقعة، هي هي، لم تتغير.

لكن لا خنازير هُنالك!

مر اليوم ثقيلًا جدًا، لم تُفلح مُحاولات مضيفينا في إخراجنا من الذهول والتوتر الذين سيطرا علينا، لا أعرف كيف نمت، ولا كيف هل علينا الصباح، ولا كيف أغلق ابنايّ عينيهما وخلدا للنوم.

ما أعرفه أني ذهبت وحدي لقسم الشرطة لأطمئن على الطفلين!

أتعرف ماذا حدث؟ لن تصدق يا كاتب روايات الرعب!

لقد أنكر الجميع أي شيء مما قلت، لم نأتِ إلى هُنا بالأمس، لم نعثر على طفلين تائهين، وبالطبع ليس هناك خنازير!

وكأن كل ما جرى في اليوم الفائت مُجرد كابوس مُزرٍ!

بكيت، كما لم أفعل يومًا، هؤلاء الناس يتهمون عقلي بالتلوث، بالضياع.

أذكر أني جلست على مقعدٍ خشبي مُتهالكٍ هُناك، ودفنت رأسي في كفيّ حتى ساد الظلام.

بل وحتى ساد الصمت التام!

لأني حين رفعت وجهي ببطء، وجدت أنني في بيتي في الاسكندرية، جالسة أمام شاشة الكمبيوتر، تملأها شاشة انجليزية لموقع reddit، لم أفهم ما الذي يحدث بالضبط، التقطت عيناي الكلمات الانجليزية، وقرأت القصة المعروضة، التي تحدث لسائحين بريطانيين في قرية أوكرانية صغيرة، حيث وجدا طفلين شبيهين بالحالة التي قصصتها عليك، وسط الخنازير والروث، وقد أبلغا الشرطة، وجيء بوالديهما، اللذين تبين أنهما سكيرين عربيدين، لا يهتمان أبدًا بحالة الطفلين.

أقرأ القصة وعيناي تزدادان اتساعًا، الذهول يسيطر على مُخي، ماذا حدث؟ ما تفسير هذا؟ أنا متأكدة تمامًا مما رأيت، لم يُكن حُلمًا ولا تخيلات، كانت حقيقة دامغة، أو هذا ما يصوره لي عقلي!

سألت زوجي، وأولادي، عُدت إلى القرية، سألت أهلها، وعم سالم! وفي نقطة الشرطة، قالوا أني أهذي لا مفر.

كل ما حكيته لك الآن.. لم يحدث قط في عقول الأخرين!

أحافظ على هدوئي بصعوبة، عقلي يُجن، أحتاج لإجابة، أجبني يا دكتور، هل أحتاج لطبيب نفسي؟!

أجبتها بهدوء:

– هل أتيتِ لتسأليني عن رأيي كصيدلاني أم كمهتم بما وراء الطبيعة؟ كلاهما سيزعجكِ.

– ماذا؟

– سمعتكِ للنهاية ولم أقاطعكِ، سأمنحكِ خلاصة تجربتي في هذا الموضوع، يُمكننا أن نسميه حسب علم النفس بمصطلحات مُخيفة مثل الهلاوس البصرية والسمعية، أو انفصام الشخصية، أو عقدة اضطهاد! ربما ينكرون ما شهدتيه بعينيكِ، لكن عقلك يُشير إلى إخفائهم للحقيقة.

تطلعت إليّ بهلع، هلع حقيقي، يبدو أن ما قلته أصاب حقيقتها:

– لست طبيبًا نفسيًا على كل حال، أنا أفكر معك بصوتٍ مرتفع، ما قلته مجرد تكهنات، يجب أن تزوري طبيبٍ نفسي جيد المستوى، ودعكِ مما قلته، فلدي تفسير غرائبي، أكثر إقناعًا.

تأملتني بصمت، لقد صدمتها كلماتي بالفعل، لن يزداد الأمر سوءًا، حسبما أظن!

– أتعرفين، بحثت طويلًا عن أنواع الرعب والمخاوف، وأصول الوحوش والشياطين، وقصص الرعب الأجنبية، وأساطير العرب القديمة، اقتناعًا مني أن الرعب المصري الحالي فقير، يرتكن على الحان وطلاسمهم وعزائمهم، الكثير من القتل والدماء والأمراض النفسية.

توقفت لحظتين ثم أكملت:

– عثرت على قصتين عجيبتين، تتحدثان عن رجلين مُثيرين للريبة، أولهما، أُسميه ذاك الرجل، تشيع صوره على الإنترنت، أشهرهم صورة مرسومة لوجهه، يدعي ألاف الأشخاص في أنحاء الأرض أنهم رأوه في أحلامهم، ويشددون على ذلك، بالطبع أتت شهادات كثيرة تُفيد بأن الأمر كله خدعة، دعاية لفيلم ما، شاب إيطالي يصور نفسه بنفس الشكل، قصص كهذه.

أنا لا أصدق أيًا من الجانبين، لكن من العجيب أن يظهر لي ذلك الرجل في الحقيقة، بل ويستقل معي الترام لمحطتين أو ثلاث، ويتلاعب بحاجبيه ليُثير خوفي واهتمامي!

اتسعت عيناها فجآة، فلم أُمهلها:

– هُناك شخص أخر، يسمونه السلندر مان، رجل طويل جدًا، نحيف جدًا، يرتدي بذلة رسمية، ووجهه النحيل دون ملامح، ليس فيه سوى فمٍ واسع، وربما لا تراه مُطلقًا، يُقال أنه حقيقي! يختطف الأطفال، يظهر في الغابات، وخلف من يختاره القدر في صورهم، دون آن يرونه بعين الحقيقة، ويُقال -وهي حقيقة غالبًا- أنه مجرد اختلاق قريحة فنان ذي خيال فياض، رسمه ليُشارك به في مُسابقة فنية، على الإنترنت، وألف قصته تلك عن اختطاف الأطفال، ثم تناثرت الكلمات، فأصبح الشخص المُخيف المشهور في أمريكا، يظهر في القصص والأفلام والألعاب و..

آه.. لقد رأيته في الحقيقة، يخرج من أحد فصول تلك المدرسة القديمة، المهجورة؟ أتعرفينها؟ التي تحولت لمقلب قمامة ضخم يقبع تحت خط كهرباء الضغط العالي!

وأشرت بيدي في اتجاهه، عيناها تتسعان، لا بد أن الكلمات لا تسعفها.

سألتها:

– تظنين أني أسخر منكِ؟ لم أظن عنكِ ذلك وأنتِ تتكلمين عن خنازير ما في المنوفية! على العموم.. يُمكنكِ أن تنظري خلفكِ، إنهما ورائكِ!

أتسعت عيناها برعب حقيقي، التفتت خلفها بسرعة، رأتهما، يقفان في الشارع أمام مدخل الصيدلية، فصرخت، أخذت حقيبتها وركضت مبتعدة ببطء سيدة كبيرة السن، خرج سكان الشارع يتسائلون عما يحدث، لم أجبهم إذ تعلق بصري بذاك الرجل والسلندر مان!

قال ذاك الرجل:

– لما لا نتبعها؟

– لا بأس بذلك!

– دعوها وشأنها، ستُجن رسميًا.

– وما المشكلة.. هذا أفضل من أن تدخل مصحة نفسية وتدعي أنك وحدنا من شاهدنا!

ابتعدا ليلحقا بالسيدة، يجب أن أفكر في شيء يُبعد عن عقلي تلك الهلاوس.

هل هي هلاوس حقًا؟!

أضف تعليق