الإمساك بالقشرة البيضاء قصة ل دبليو. اتش. بوجماير

الإمساك بالقشرة البيضاء
قصة ل دبليو. اتش. بوجماير
ترجمة: د. أحمد تركي
***
أغرقت غواصة العدو سفينتنا الحربية بطوربيد.
تتشكل ذاكرتي المسعورة عن الحدث من دُخانٍ ونيران، ورجال يصرخون، إذ نجحت وروبرتس في تحرير أحد قوارب النجاة، ليسقط مُدويًا في المياه المُهتاجة من تحتنا.
غطسنا في البحر وركبنا القارب الصغير، نستعد للتجديف بعيدًا عن السفينة الغارقة، عندها لاحظنا أحدهم يتعثر في الماء، جوستاف سترمان.
تقدمت مركبتنا نحوه، غطس جسده بالكامل تحت الماء، مؤقتًا؛ جذبناه إلى داخل القارب، ومن ثم، ناضلنا للابتعاد عن مشهد الكارثة.
رأيت سترمان يفتح عينيه، ويومئ برأسه لي، لم تُعجبني نظراته الزجاجية، كغشاوة نصف ميتة تعكس المرئيات، وكنا قد ابتعدنا بالفعل عن سفينتنا شبه الغارقة حين سمعنا انفجارات وصرخات بعيدة.
صاح روبرتس والفزع يتراقص في عينيه:
– يُطلقون طوربيداتهم على قوارب النجاة!
ظننت أني أسمع غناءًا شاذًا هامسًا في الوقت ذاته، تطلعت إلى سترمان، فرأيت إحدى يديه تتمسك بتميمة رديئة يرتديها دومًا، عيناه مُغلقتان، وشفتاه تتحركان بهدوء، يُغني، بل يئن، بلغته الهولندية.
تفكرت لوهلة في قدر السخرية من الأمر، هذا شاب في ريعان شبابه، هاجرت عائلته إلى أمريكا، ثم حصلوا على الجنسية، وهو الآن يُقاتل في حرب لا تشارك فيه الأمة الهولندية أصلًا.
ارتفع صوته فجآة، وفتح عينيه عن أخرهما، تتساقط كلمات من شدقيه، بلغة ما، إن جاز تسميتها بذلك، بدت كمحاولات تقيؤ صوتية، أمر مزعج بحق، كثقوب تنخر مخي.
تنبهت إلى لفات الغيوم السوداء الكثيفة، وهي تدور حول قاربنا بسرعة، لفات تنشأ من المياه أمامنا، وتغطس فيها خلفنا.
غطت مركبتنا بالكامل.
وتنبهت كذلك للضوضاء العنيفة الآتية من الوراء، مما خلف السحابة السوداء، والانفجارات والصرخات؛ لكن تركيزي الفعلي توجه نحو تأثير تلك السحابة على حواسي؛ لأن لها رائحة لم أشُم مثلها قط، وعندما استنشقتُ خيوطًا رفيعة منه عبر فتحتي أنفي وفمي، احترت، إذ صاحب ذلك إحساسين مُتضاربين، بالحلاوة، وضربٌ من التعفن!
سعل سترمان بقوة، انكب روبرتس عليه، يُملس قطعة من قماشٍ أبيض مبلول على وجه الشاب، خلع الهولندي التميمة من حول عنقه، وقدمها لروبرتس.
– إنها إرث عائلي قديم جدًا.
قالها سترمان، بصوتٍ خشن:
– عمرها قرون! يا جوني روبرتس، أرجوك، حاول إعادتها لعائلتي.
ثم همدت حركته، وفقدت عينيه ضوء الحياة!
طاف بنا المركب لفترة لا أعلمها، بصمت، قبل أن تنقشع السحابة السوداء أخيرًا.
كنا وحدنا تمامًا، لم نرَ أي قوارب أخرى ولا حطامها، صلينا لأجل زميلنا الشاب، ثم حملنا جثمانه بحرص، وأودعناه المياه.
لم نُتابع غرق جسده!
فردنا أطرافنا المتوجعة، وتثائبنا، أُغلِقَت أعيننا، نمنا، فرأيتُ أحلامًا مُقلقة.
أيقظتني ضحكة شاذة، ظننت رفيقي يُصدرها، لكني وجدته نائمًا، تتمسك يداه بتميمة سترمان.
يتحرك القارب عبر ضباب كثيف جعل من المُستحيل تحديد الوقت تقريبيًا.
فتحت الخزانة الصغيرة المُلحقة بكل قوارب النجاة، أخرجت زُجاجات ماء وعُلب اللحم المُقدد المحفوظ، وكزت رفيقي بمرفقي لأوقظه، وعرضت عليه الطعام، فأكلنا في صمت، كان روبرتس يفحص التميمة كل حين، وأنا أُتابعه.
– إنها قديمة جدًا، تُذكرني بقلادة رأيتها مرة، تعويذة أبي هول فضية وقديمة، في جنوب الهند، كانت مع بائعٍ جوال، متصوف هندوسي، أذكر أن تعبيرات وجهه كانت رقيقة، وفيها شر نقي، مصنوعة من حجر كريم، حسبما اعتقد. كان له جناحان عريضان، جعلته يُشبه كلب جحيم مُجنح غير مألوف.
أنهى كلامه المُتقلب بغرابة، وبدأ يُتابع الضباب لأول مرة:
– غريب، حلمت للتو بضباب كهذا، وشيء ما يحوم حول القارب، لكني لم أتبين ماهيته، شيء بأجنحة كبيرة تُرفرف، العجيب أني لا أتذكر أحلامي غالبًا. مرحبًا.. لما أنت صامت هكذا؟
– أُنصِت، هل تسمع ذلك؟ صوت أمواج تصطدم بالبر؟
بدت كلماتي كشعوذة من نوع ما، بعدها بلحظات اخترقت تلك الجزيرة الضباب، ودون تفكير، أمسكت الحبل المُرتبط بحلقة معدنية في مُقدمة القارب، وغطست في الماء، ثم سبحت إلى بُقعة من رمال مُحاطة بطبقات صخور بارزة، قاومت مُتجهًا نحو اليابسة، أجذب القارب نحوي، في الأخير قفز روبرتس من القارب وانضم إليّ، نجذب المركبة نحو سطح الرمال البيضاء.
خارت قوانا، جلسنا نلتقط أنفاسًا ثقيلة، فحصت الموجودات، لا شيء يُشير إلى وجود بشر، أعداء أو غير أعداء، ورغم أن الضباب منعنا من رؤية شاملة للأرض، فما ظهر منها بدا غريبًا جدًَا، كأنها لوحة سريالية.
– يا لها من فوضى ألوان! وكأنما انبعثت الحياة في رسومات كلايمت.
– من؟!
– إنه فنان مُثير للجدل، قابلته منذ أعوام في فيينا، انظر لتلك الأشجار أمامنا، فروعها العُليا تتحد، لتُشكل ما يُشبه النفق، وتلك الأشجار هُناك، يُشكلن مظهرًا مُخيفًا، شريرًا، وتلك الأشجار خلفهم، دقق النظر، لا تدع الضباب يُعميك، إنها أطلال.
عاش روبرتس حياة بوهيمية قبل استدعاءه للخدمة العسكرية، لكن الاستماع إليه وهو يتحدث عن تذكار في الهند، وعن رسام من فيينا، هذا درب من خيال، باعتبار معيشته الفقيرة.
لكني أفهم ما يقصده، فجذوع الأشجار على الجانبين تُشبهن شمطاوات شريرات يقفن بصرامة، آتياتٍ من حكاية جن من القرون الوسطى، والطريقة التي تتشابك بها فروعها شريرة المنظر ستُحطم أعصاب أصحاب الخيال الخصب.
ولا تبدو أوراق الأشجار ذات الألوان المُتعددة مثل أي شيء رأيته، يفترشون الأرض بهيئة أشعرتني أني أمشي على محتويات اندلقت من مِشكالٍ غير بشري.
– وكأننا نمشي في حلم، أخبرني.. إن لمستك، فهل أنت موجود حقًا؟!
ومد يده ليضعها على كتفي، وكنت عصبيًا جدًا، بسبب سلوكه الغريب، أمسكت رأسه بين ذراعي وصدري، وشددت عليه قليلًا:
– نحن حقيقيين بما فيه الكفاية يا صديقي.
وتركته لأنظر إلى عينيه، فيهما تعبيرات غريبة، وكأنها تنتمي لروحٍ ضائعة.
وبعدما فررنا من ظلال الأشجار الشريرة، وقفنا أمام الأطلال، بدت كضريح عملاق راقد ما، مبنية بقوالب حجرية ضخمة، منذ قرون ماضية.
دخلنا إحدى ثلاث منعطفات مُقنطرة، كان مرأى ضوء الشمس الصامت وهو يسقط عبر الثقوب التي سقط فيها السقف مُحببًا، مشينا معًا فوق حطامٍ كثير، ونزلنا سُلمًا حجريًا باهتًا، إلى ما يُشبه حُجرة انتظار، بعواميد ضخمة، وتمثال أسود مهول الضخامة؛ شيطانٌ مُجنح غير ذي وجه!
لم تكُن هذه مقبرة كنوز مدفونة أو مرمية، بل أشبه بقُمرة واسعة، بها بقايا مُتحللة، وتمائم تتناثر في كل مكان، لم نُرد لمسها ونحن نتحرك نحو الشيء الرابض فوق منصة حجرية خضراء دائرية ، والذي بدا مألوفًا رغم غموضه.
سمعت رفيقي يتنفس بعلو صوته، استدرت لأطمئن عليه، رأيته يُمسك التميمة القديمة المُنسدلة على صدره، تذكرت فجآة متى رأيت ما يُشبه ذاك التمثال!
الاختلاف الوحيد بين الاثنين هو ارتفاع الطرفين الأماميين لتمثال المنصة المُقعي على ركبتيه، وكأنه يركع لأحدهم، ليحمل كومة من لحمٍ أبيض، تبدو أنها كانت بشرية يومًا ما.
– أيها الداخلون، انزعوا عنكم كل أمل.
همس بها روبرتس، أظنه اقتبسها من الكتاب المُقدس، الذي لم أقرأه أبدًا، ورغم أني لا أُعَد مُتدينًا، لكني أخاف الذنوب كثيرًا، وأُفرق بين بين الخير والشر.
أردف روبرتس:
– هذا المعبد غير حقيقي، ونحن لسنا هُنا فعلًا، لا تنظر إليّ هكذا، إنها هلوسة مجنونة، تجتاحنا، سببها ضُعفنا، ونقص المدد. أنظر حولك؛ إنه وهم.
في الحقيقة، كان كل ما أراه في الموقع حيث نقف خاطئًا، جُدران كثيرة، وزوايا شاذة تُصيبك بالدوار إذا أطلت النظر إليها، كتابات هيروغليفية مُتناثثرة على العواميد والحوائط، حروف مُحيرة، مقلوبة ومُعتدلة.
دون ذكر المُصادفة الغريبة؛ تشابه تميمة زميلنا الميت وتمثال المنصة الخضراء.
أصابني صُداع، يُضيق الخناق على مُخي، لا سبيل لحل هذه الألغاز، فركت عينيّ من الألم، لعلي أُزيح عدم الارتياح جانبًا.
وبقليل من التركيز، عرفت أن روبرتس يجوس بين القناطر الثلاثة، وكأنها درجات سلالم تُحيط بالمنصة الخضراء، تابعته وهو يقترب من اللحم المتكوم عند التمثال، تثائبت، حمل روبرتس الجسد المتكوم وأرقده على المنصة نفسها.
مقاطع من ضوءٍ خارق قرصت عينيّ، دلائل على فقداني لوعيي تدريجيًا، تجاهلت تعبي وتوجهت نحو المنصة، تسلقت درجاتها، وأنحنيت إلى جوار زميلي.
تأملت الشيء الأبيض، وتبين أن روبرتس مُحق؛ نحن في حلم مُخيف.
القشرة المُحيطة باللحم الباهت، مُمتدة، وغير ذات لون، حتى الأجزاء الخالية من اللحم -مقضومة، حسبما أظن- كانت بيضاء، لكن رأس هذا الشيء، كان مُنتفخًا، وشاحبًا، ويرتدي وجه جوستاف سترمان!
قُلت بتثائب مريع:
– مُستحيل!
– بالفعل، أخبرتك بذلك. نحن نهلوس، ربما كان الطعام فاسدًا! أو مسمومًا!
– ليس حلمًا يا جوني، إنها واقع، واقع مريض، هذه الصخرة حقيقية، أنظر.. أصابعي تنزف بعدما حككتها في سطحه الخشن، العجيب أني لا أشعر بألم.
اتكئت بقبضتي على الصخرة، ضربتها عدة مرات، وصرخت، حتى أوقفني روبرتس، وأمسك قبضتي النازفة.
بعدها، رأيت جلده يشحب بسرعة، ليُحاكي كومة اللحم إياها، ومر من فوقنا ظل عظيم، أحسست به من فوق ثقوب السقف، كابوس حي ينبح، أثناء اختراق رائحة دمي لأنفي.
ضحك روبرتس بخفوت، وبدأ يُنشد كلامًا، نزع التميمة من حول عنقه، وعمل على وضعها حول رأس الجثة المُنتفخ.
اندفع تيار أنفاسٍ مُتعفنة من الجثة، هو زفير، لكن بلغة ما، ارتجفت لدى سماعه، ورأيت روبرتس ينحني أكثر ويضغط أذنه على شفتيّ سترمان المُتضخمة.
ثم انتابتني قشعريرة أفظع، إذ بدأ روبرت يُحاكي ما يُهمس له، أغنية مجنونة، خلاصة شيطانية، الهواء يتجمع بطريقة قذرة، والكيان المُجنح يُحلق، يختفي، ربما
هو جائع، يحتاج تلك الكلمات، أجنحته تخفق، تأملت الوضع، بعينين تكادان تحترقان، كأنهما غارقتين في حمض.
رفعت الجثة ذراعًا واحدًا، قربت التميمة إلى فم روبرتس، إلى الشفاه التي تغنت بصوت ما لا اسم له، لم استطع الفرار، ولا الصراخ، إذ رأيت الجثة تنهش عنق روبرتس، تأكل بهدوء.
استطعت الضحك، كمأفون، حفرت أصبعان في وجهي، كي لا أرى، أضحك بجنون، وأنا اقتلع عينيّ المُحترقتين.
***
نُشرت القصة في المجموعة القصصية
World war Cthulhu:
A collection of lovecraftian war stories
حقوق القصة محفوظة
W. H. Pugmire © 2014
حقوق رسم الغلاف
M. Wayne Miller © 2014

أضف تعليق